بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعد ،فهذا ملف مبسط عن العلمانية يتناول تعريفها ونشأتها وكيف دخلت إلي العالم الإسلامي ،أقوم بتجميع مادته العلمية لنقوم بالإسهام في إسقاط اللافتات الخادعة عن العلمانية ،ونقوم بتوضيح الموقف الصحيح من العلمانية ،وكذلك كيفية إخراج الأمة من التهوك والوقوع في براثن العلمانية لتقف الأمة الموقف الصحيح من العلمانية ،والله ولي التوفيق.
أولاً:-تعريف العلمانية:-
مقدمة :
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبعد : فهذه عدة مقالات في موضوع العلمانية تبين تعريفها والموقف الشرعي منها أسأل الله العلي القدير أن تساهم هذه المقالات في رفع الالتباس حول هذا الموضوع الهام وكيف نعد أنفسنا لمواجهة هذا الخطر الداهم وكيف نرشد مسيرة الإحياء الإسلامي لمواجهة هذا الخطر الداهم .
مدخل هام :
تعريف العلمانية (1)
لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة ( Secularism ) في الإنجليزية أو ( Secularite ) بالفرنسية وهي كلمة لا صلة لها بلفظ ( العلم ) على الإطلاق فالعلم بالإنجليزية والفرنسية معناه ( Science ) والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة ( Scientism ) . )
والترجمة الصحيحة لكلمة ( Secularism ) هي اللادينية أو الدنيوية وتقول دائرة المعارف البريطانية مادة ( Secularism ) هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها ، ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو ( إقامة الحياة على غير الدين ) سواء بالنسبة للأمة أو الفرد .
ويورد قاموس أكسفورد المعاني التالية لمصطلح علمانية ( Secular)
-1 ينتمي للحياة الدنيا وأمورها .
2- مادي مرئي تمييزا له عن العالم الأزلي والروحي .
3- مدني وعادي وزمني .
4- يهتم بهذا العالم وحسب .
5- غير روحي (2 )
* أول ظهور للعلمانية كان في قوم شعيب كما يقص القرآن استنكارهم ربط الدين بالدنيا حيث قال له قومه :" أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " هود 87 . فهم أرادوا بذلك ألا يكون للدين دخل في الحصول على الأموال واستثمارها وإنفاقها ومن هنا يتأكد أن الاتجاه بفصل الدين عن الحياة ليس ظاهرة جديدة وإنما هو سمة دائمة من سمات الجاهلية في غالبية مراحلها وعصورها(3)
والآن إلى تساؤل آخر ما أسباب ظهور العلمانية في الغرب ؟
لقد نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة الظروف ومعطيات تاريخية :- دينية واجتماعية وسياسية وعلمية واقتصادية – خلال قرون من التدرج والنمو الطبيعي والتجريب والتكامل حتى وصلت إلى صورتها التي هي عليها اليوم وأهم هذه الظروف والمعطيات التي برزت وأنضجت التجربة العلمانية في الغرب هي :
-1طبيعة الديانة النصرانية :
ومبادئها الأساسية التي تقوم على الفصل بين الدين والدنيا أو بين الكنيسة والدولة ونظم الحياة المختلفة فهي ديانة روحية شعائرية لا شأن لها بنظم الحياة وشئون الحكم والمجتمع يعبر عن ذلك الشعار النصراني الشهير( دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر ) ولهذا فإن النصارى أمما وشعوبا حين يندفعون للبحث عن تنظيم أمور حياتهم في العلمانية أو غيرها لا يشعرون بأي حرج من ناحية دينهم ( المحرف ) ومعتقدهم ، بل إن طبيعة دينهم تدفعهم لهذا الأمر ولذلك فإن نشأة العلمانية وانتشارها وسيادتها في المجتمعات الغربية أمر طبيعي .
-2الصراع الذي نشأ بين الكنيسة والكشوف العلمية في جوانب الحياة المختلفة -: تبنت الكنيسة بعض النظريات العلمية القديمة من بعض العلوم ومع مرور الزمن جعلتها جزءا من الدين ويحكم على من يخالفها بالردة والمروق والهرطقة ومع تطور العلوم الطبيعية تبين أن كثيرا من تلك النظريات كان خاطئا وخلاف الصواب والحقيقة ، وانبرت الكنيسة تدافع عن تلك الأخطاء باعتبارها الدين واشتعلت الحرب وسقط كثير من ضحايا التزمت الخرافي والتعصب الأعمى غير المسوغ من علماء الطبيعة ما بين مقتول ومحروق ومشنوق وحين تبين للناس الحقائق وقامت البراهين القاطعة على صحة أقوال أهل العلم انحازوا للحقيقة ونبذوا الكنيسة ودينها أو على الأصح ردوا الديانة النصرانية المحرفة إلى أصلها .
-3 ظهور حركات اجتماعية فكرية سياسية :-
وقد أدى انتصار العلم في النهاية إلى ثورة علمية وكشوف جغرافية فكان أن قامت في الغرب حركة اجتماعية فكرية سياسية شاملة نفضت غبار الماضي وثارت على كل قديم واحتدمت نيران الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة والقوى القديمة التي يمثلها الإقطاع وطبقات النبلاء وانحازت الكنيسة أيضا للقوى القديمة ، بينما كانت القوى الجديدة تطالب بالحريات والمساواة وترفع شعار حقوق الإنسان ، ويدعمها العلم وحقائقه وتطور الحياة وسننها فالتفت الشعوب والجماهير حول القوى الجديدة الداعية إلى التقدم الاجتماعي والتطور الفكري والسياسي وكان يدعم هذا التوجه ما عاشته الشعوب من ظلم واستغلال بشع في ظل الإقطاع والكنيسة وكانت العلمانية اللادينية هي اللافتة والراية التي اجتمعت القوى الجديدة تحتها وبانتصار هذه القوى انتصرت العلمانية (4).
كيف دخلت العلمانية إلى العالم الإسلامي ؟(5)
والإجابة هي إن العلمانية دخلت إلى العالم الإسلامي بسبب غياب المفاهيم الإسلامية الصحيحة عن واقع العالم الإسلامي مما مهد الطريق إلى دخول العلمانية إلى العالم وذلك ، إننا لا نعدم أيضا في بواكير ( التراث الفكري الإسلامي ) بعض الجذور العميقة لتصورات ومفاهيم منحرفة عن الإسلام الصحيح ساهمت إلى حد كبير في إخصاب الأرضية الفكرية التي عملت عليها العلمانية .
فمن ذلك :- الأثر الذي تركته الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية على فكر بعض الفرق وخاصة المعتزلة حيث شاع عندهم تقديم العقل على النقل عند توهم تعارضهما حتى عدوا ذلك أصلا من أصول الاستدلال فكانوا ينكرون ما يستطيعون من الأحاديث النبوية التي تتعارض مع المعقول بحسب تصورهم لهذا المعقول – بدعوى عدم ثبوتها أو عدم حجيتها لكونها أحاديث آحاد لا تفيد اليقين وهذه الفكرة في أحد جوانبها – من شأنها تضييق نطاق النصوص الشرعية وما يستنبط منها لحساب توسيع مجال عمل العقل الذي أخذ يحتل مكانة النصوص في منهجية الاستدلال . كما أخذوا يؤولون الآيات القرآنية – تأويلا أيا كان بعده – ليوافق أصولهم ومعارفهم العقلية التي عدوها يقينية ، فكان استخدام هذا الأصل بقدر ما يعلي من قيمة العقل البشري بقدر ما يحط من قوة الإيمان بالغيب وصفاء التسليم للشريعة .
ومن ذلك أيضا :- الأثر الذي تركه الفكر الإرجائي على تصور كثير من المسلمين لحقيقة الإيمان ، فقد ابتدع المرجئة القول بخروج الأعمال من حقيقة الإيمان ؛ وعليه : بات يكتفي في الإيمان بتصديق وقول – على اختلاف بينهم – ومن ثم :- كثرت الأعمال التي لا تنسب إلى الإيمان وهي تشمل الحياة كلها ، وبتعبير آخر : اتسعت المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها العصيان والتبديل والانحراف بأمان تاركا الإيمان قابعا في زاوية ضيقة تسمى القول ، ثم تحول هذا القول على يد المرجئة الجدد إلى مجرد ألفاظ خالية من مدلولاتها ومعانيها ، ومما زاد من أثر آراء المرجئة على حياة الأمة : اندثار المرجئة الفرقة ، وبقاؤها – بل وانتشارها – أفكارا وآراء .
ثم كان للصوفية نصيب من هذا الإخصاب : إذ تعانق مع الفكر الإرجائي انحراف مفهومي ( العبادة ) و ( القضاء والقدر ) عند المتصوفة ، حيث تحول مفهوم الزهد الإيجابي الذي كان عليه السلف على يد المتصوفة إلى سلوك انسحابي أخذ شكل التفرغ – للعبادة – في مسجد أو زاوية أو خلوة أو حتى كهف . وأما من انصرف إلى معالجة شئون الدنيا فقد كان ينظر إليه عند هؤلاء على أنه انصرف عن العبادة ، وكما رأينا اضطراب العلاقة بين العقل والنقل عند المعتزلة الذي تطور لاحقا عند ( التنويريين ) إلى اضطراب في العلاقة بين العلم والدين نجد هنا – على يد المتصوفة – علاقة متنافرة غريبة بين الدين والدنيا أو بين الآخرة والدنيا ، فمن أراد الدين والآخرة فله المسجد لا شأن له بالدنيا ، فلمن ترك هذه الدنيا ؟! يتصدى لها أهل الفساد والانحراف ولا يكون ذلك مستهجنا ، كما لا يكون مستغربا أن ينظموا هذه الدنيا بمنأى عن الدين الذي ترك في خلوات العبادة وحلقات الفقه وفي قول أو شعائر يؤديها الفرد المسلم بل يتم التسليم بذلك الانحراف على أنه قضاء وقدر .
أضف إلى ذلك :- إن ما روجه الصوفية عن الفرق بين الحقيقة والشريعة كان بابا واسعا للانسلاخ من الشرع والتفلت من الدين تحت مظلة ادعاء ( الولاية ) وقد كان هذا المفهوم مطية لتأويلات عديدة غير منضبطة بأصول شرعية أو لغوية أو عقلية .
ومن العوامل الفكرية التي ساهمت في إخصاب الأرضية التي قامت عليها العلمانية : - الفصل الحاد بين ( العبادات ) و ( المعاملات ) الذي اقتضته ( الأصول الفنية ) للمنهجية العلمية التي قامت عليها الكتب الفقهية المتأخرة .
وكذلك بعض الآراء الأصولية الفقهية الشاذة أو الاستخدام السيئ لبعض الأصول والقواعد الفقهية فلقد ناقش الفقهاء مسألة ( نسخ القياس والإجماع للقرآن والسنة ) وردها ولكن إثارتها من بعض العلماء وإن كانوا قلة – يدل على استعداد فكري مبكر لتطويع الشريعة ، كما ساهم في ذلك الانحراف عن ضوابط بعض الأصول والقواعد الفقهية مثل :- الخروج بالاستحسان والمصالح المرسلة من كونها المصالح الشرعية إلى المصالح التي يرتئيها المنفذون حسب عقولهم وأهوائهم ومثل الانحراف بنظرية العرف أو قاعدة ( العادة محكمة ) ليكون العرف والعادة هما الأصل الذي يقدم على ما سواه ولا شك أن مجرد وجود هذه العوامل والمؤثرات كان لا يعني حتمية نشوء العلمانية في العالم الإسلامي ؛ ذلك أن في الإسلام ذاته وفي العالم الإسلامي في مجلة من القيم الأخرى الأصيلة والقوى المعادلة لهذه العوامل والمؤثرات ما يبطل – أو يضعف – أثر هذه العوامل ولكن الحقيقة أيضا أن هذه العوامل والمؤثرات شكلت – عندما انتشرت وتعاظمت – حالة يمكن أن نطلق عليها ( القابلية للعلمنة ) شبيهه بتلك ( القابلية للخضوع ) التي قصدها الشيخ عبد الحميد بن باديس ، والمفكر مالك بن نبي ، والتي أطلقوا عليها : قابلية للاستعمار ، إضافة إلى أن هذه العوامل مثلت ثغورا نفذ منها العلمانيون إلى بناء الفكري الإسلامي ، وعلى ذلك :- فإن هذه العوامل والمؤثرات رغم وجودها في مسيرة الأمة إلا أنها لم تكن عناصر فاعلة إلا في القرنين الأخيرين ، وذلك لأن العوامل المساعدة المنشطة التي تحث هذه العناصر على التفاعل لم تكن متوفرة بشكل كاف قبل ذلك ومن أبرز هذه العوامل المساعدة :- الهزيمة النفسية لدى المسلمين وتوجه الغرب إلى الغزو الفكري مع – أو بدلا من – الغزو العسكري الذي أثبت إخفاقه وحده عبر حروب صليبية طويلة .( 6)
الوسائل التي ساعدت على انتشار العلمانية:- ما هي الوسائل التي ساعدت على انتشار العلمانية في العالم الإسلامي ؟
والإجابة عن هذا التساؤل تكون بشكل مجمل، لأن الغرض هنا هو رسم صورة عامة إجمالية لهذا الموضوع والآن إلى أهم هذه النقاط :-
-1 من خلال الاحتلال العسكري الاستعماري :- فقد وفدت العلمانية إلى الشرق في ظلال الحراب العسكرية وعبر فوهات المدافع البوارج البحرية .
-2من خلال البعثات العلمية التي ذهبت من الشرق إلى الغرب لطلب العلم والتقدم فعاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم ، ذهبوا لدراسة الفيزياء والكيمياء والإحياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية بل دراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في جامعات الغربية ولك أن تتصور حال شاب مراهق يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه بعد أن يكون قد سقط إلى شحمة أذنيه في حماة الإباحية والتحلل الأخلاقي ، وما أوجده كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية وفي أهم المراكز العلمية بل القيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء وإلى تاريخها بريبة واحتقار وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها – في أحسن الأحوال – بشفقة ورثاء - ، إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلا تجاريا لمن علموه وثقفوه ومدنوه وهو لا يملك غير ذلك ولئن كان هذا التوصيف للبعثات الدراسية ليس عاما فإنه الأغلب وبالذات في أوائل عصر البعثات وما ( طه حسين ) و) ( رفاعة الطهطاوي ) إلا أمثلة خجلي أمام غيرهم من الأمثلة الصارخة الفاقعة اللون مثل ( زكي نجيب محمود ) و ( محمود أمين العالم ) و ( فؤاد زكريا ) و ( عبد الرحمن بدوي ) وغيرهم الكثير ، ولئن كان هذا الدور للبعثات العلمية تم ابتداء من خلال الابتعاث لعواصم الغرب فإن الحواضر العربية الكبرى مثل ( القاهرة – بغداد – دمشق ) أصبحت بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني للبلاد العربية الأخرى من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها وبالذات لدول الجزيرة العربية
3- من خلال البعثات التبشيرية : -
فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلامي شرقا وغربا من شتى الفرق والمذاهب النصرانية جعلت هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين بدينهم وإخراجهم منه ، وتشكيكهم فيه ، حتى ,عن لم يعتنقوا النصرانية وليس أجدى من العلمانية وسيلة لهذا الغرض والأمر ليس من باب التخمين والافتراض بل نطقت بهذا أفواههم وخطته أقلامهم .
-4 من خلال المدارس والجامعات الأجنبية :-
ففي أواخر الدولة العثمانية وحين سيطر الماسونيون العلمانيون على مقاليد الأمر سمح للبعثات التبشيرية والسفارات الغربية بإنشاء المدارس والكليات وانتشرت في بلاد الشام والأناضول انتشار النار في الهشيم وخرجت أجيالا من أبناء المسلمين وبناتهم أصبحوا بعد ذلك قادة الفكر والثقافة ودعاة التحرر والانحلال.
5- من خلال الجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية ما بين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسة واجتماعية وثقافية وأدبية بجميع الألوان والأطياف وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية والسعي لعلمنة الأمة كل من زاوية اهتمامه والجانب الذي يعمل من خلاله .
-6 من خلال البعثات الدبلوماسية :- سواء كانت بعثات للدول الغربية في الشرق أو للدول الشرقية في الغرب فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسورا تمر من خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف من خلال الاقتداء ومن خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي والتواصل الاجتماعي والمناسبات والحفلات ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي وليس بسر أن بعض سفارات الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة .
-7 من خلال الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي ، لكنها لم تستطع أن تتخلى عن توجهاتها الفكرية ، وقيمها وأنماط حياتها الاجتماعية وهذا أمر طبيعي ، فكانت من خلال ما جلبته من قيادات إدارية وعمالة فنية احتكت بالشعوب الإسلامية سببا مهما في نشر الفكر العلماني وقيمه الاجتماعية وانعكاساته الأخلاقية والسلوكية ، ولعل من المفارقات الجديرة بالتأمل أن بعض البلدان التي كان يعمل فيها بعض الشركات الغربية الكبرى من أمريكية وبريطانية لم تبتل بالتنظيمات اليسارية ، ولم تنشأ إلا في هذه الشركات في أوج اشتعال الصراع بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الغربي .(7 )
ما الواجب علينا تجاه العلمانية ؟
وهنا تأتي الإجابة بأنه يجب إقامة [رفع الالتباس عن العلمانية] وأن الإسلام والعلمانية لا يلتقيان أبدا ومن هنا فإن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض أن ينزلوا اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية والتي تحمي هذه الأوضاع لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعا ... ونقطة البدء في أي حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف وإظهارها على حقيقتها .. شركا وكفرا .( 8) وكشف أصنام هذا العصر من أفكار وزعماء وأحزاب ليتميز حزب الله وأوليائه عن حزب الشيطان وأتباعه ويمكن للأمة أن تتخذ موقف العداء الصحيح للأنظمة العلمانية الجاهلية بحيث يقوم هذا الموقف على أساس أن العلمانية التي تقوم عليها تلك الأنظمة تعني الرغبة عن شرع الله إلى غيره ، وإباحة المحرمات ، واتخاذ الولي من دون الله .. وكل هذا من الكفر والشرك الذي يتنافى مع الإسلام .. ومن ثم فلابد من رفض هذه الأنظمة العلمانية لأنها تقوم على محادة أحكام الله ومراغمة شرائعه التحاكم ابتداء إلى غير الكتاب والسنة .. ولأن القبول بهذه الأنظمة هو إعراض عن تحكيم الشريعة وهذا يعني الكفر والردة عن الإسلام .
لابد أن تتبين الأمة هذا الواقع بهذا الوضوح لتدرك أن حركات الإحياء الإسلامي إنما تريد ( أن ترد ديار الإسلام للإسلام لا لشخص بعينه وللحكم الإسلامي ، لا لأي حكم .. ومن ثم ينتفي عن الأمة شبهة الدافع الحزبي أو الشخصي .. وتصير القضية خالصة للإسلام .(9)
فالقضية ليست قضية حاكم يراد استبداله بآخر ،.. بل خلاف في أساس ( العقيدة ) بين الإسلام والعلمانية .. خلاف بين عقيدة ( التوحيد ) التي ترى أن أولى مهماتها العمل على تحطيم مبدأ ( الصنمية ) في أي شكل من أشكاله ، وبين عقيدة ( الشرك ) التي ترى في فكرة التوحيد فكرة تستهدف القضاء عليها وتسفيه أحلامها وعقائدها ، ومن هنا تحاربها بكل ما تملك من قوة .. فالخلاف بين الإسلام والعلمانية في مستوى اللا التقاء ولا يمكن أن يعيش الاتجاهان في سلام ... ولا يمكن أن يقام بينهما قنطرة اتصال ... ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد .
لابد أن تبين الأمة أيضا أن هذه الأنظمة العلمانية التي تقوم على مبدأ إلغاء الشريعة الإسلامية والإقرار بحق التشريع المطلق لبشر من دون الله ، والتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله .. هذه الأنظمة باطلة ولا تجوز طاعتها لأنها تمثل حالات ( خروج ) عن ( الشرعية ) و ( اغتصاب ) للسلطة الشرعية من المسلمين وهذا وضع يستلزم أن يقوم المسلمون بتصحيحه ، وإعادة الشرعية إلى الأمة المسلمة .
لابد أن تتبين الأمة أن هذه الأنظمة العلمانية تفتقد المشروع الحضاري لأنها تنحي الإسلام عن الحياة ، وترضى بالتبعية الذليلة لأعدائنا .. في صورة الرضا بمكاننا من السلم الحضاري ضمن النظام الدولي !! وهذا يجعلنا في حالة احتياج دائمة .. وهذا الاحتياج يولد التبعية مرة أخرى .. وتبقى الأمة في هذه الحلقة المفرغة التي لا خلاص منها إلا برفض هذه الأنظمة العلمانية .
لابد أن تتبين الأمة أن حقيقة هذه الأنظمة العلمانية أنها سلسلة من التآمر قسمت أدوارها في الخفاء لتجر الأمة إلى التنازل عن قيمها وأصالتها وهويتها ، وتلحق بالغرب الكافر جوهرا وحقيقة .. وإن حقيقة الحكام القائمين على هذه الأنظمة أنهم ( عملاء ) ليس لهم غاية إلا كرسي الحكم والعض عليه بالنواجذ ولو أدى ذلك إلى تدمير الأمة وتقديمها لأعدائها ليقوموا بافتراسها فإذا تبينت الأمة كل هذا ، وتحقق في حسها ( الفرقان ) وتميزت أمام أعينها الرايات ، واتضحت الصفوف .. كانت الانطلاقة القوية للإحياء الإسلامي ، ذلك لأن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ولكن كذلك من شعوره أن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل .( 10) وكلما ظهر فساد الباطل وبطلانه ، أسفر وجه الحق واستنارت معالمه ووضحت سبله وتقررت براهينه ) (11) إن الرحلة الطويلة لإعادة العالم الإسلامي إلى الإسلام ..وإعادة الإسلام إلى العالم الإسلامي وإلى كل أرجاء الأرض ... إنما تبدأ من هنا .. من ( إسقاط اللافتات الكاذبة وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة التي تتخفى وراءها العلمانية الكافرة – بأفكارها وأفرادها وتجمعاتها لتبث بسمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة .. وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم ، بل تحفزهم ضد إخوانهم الصادقين الواعين بحقيقة هذه الصراع المنبهين إلى خطره الداهم على الدين وأهله ) . (12)
إن( الفرقان ) بين الإسلام والعلمانية ، لابد أن يكون من القوة والتحديد وكأنه ( سيف بتار) لا يثنيه ثان ، ولا تنزع ( العقبات ) نصله وتحوله إلى سيف من خشب !! .
وعندها ستكون المواجهة الصحيحة للعلمانية الجاهلية من حيث تقف هذه الجاهلية فعلا ، لا من حيث تزعم والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع .. بعيدة جدا . (13)
وبكلمة :- لقد غابت راية الإسلام عن أرض الإسلام وحكمتها نظم علمانية لا دينية تعلي أحكام الجاهلية ، وتتستر بلافتة الإسلام ومن ثم وجب على كل من يضطلع بمهمة إحياء الأمة الإسلامية ، أن يسقط هذه اللافتة الكاذبة عن العلمانية لتظهر على حقيقتها ..( كفرا وشركا ) يناقض التوحيد والإسلام ، وليس له أدنى ( شرعية ) في أن يحكم ديار الإسلام ... وليس لحكامه ( العملاء ) أدنى حق في السمع والطاعة من الأمة .. وليكون هذا ( الفرقان ) بين الإسلام والعلمانية هو نقطة البدء في إسقاط العلمانية وقطع الطريق على عودتها في المستقبل).
تم بحمد الله تعالي...
--------------------------------------------------
ثبت المراجع:-
-1 انظر العلمانية للدكتور سفر الحوالي .
- 2 العلمانية - محمد إبراهيم مبروك – البيان عدد 202
3 -كشف حساب العلمانية – د/ مصطفى محمود أبو بكر – البيان عدد 159
-4 العلمانية التاريخ والفكرة – د/ عوض محمد القرني – البيان.
5 -طبيعة هذا المبحث أنه مختصر،ومن أراد التفاصيل فيرجع إلى كتاب العلمانية للدكتور : سفر الحوالي .
-6 جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي – خالد أبو الفتوح – البيان 159
-7 العلمانية ... التاريخ والفكرة – د/ عوض بن محمد القرني – بتصرف وانظر ( ملف العلمانية ) من مجلة البيان [العلمانية 159- 161]
-8 طريق الدعوة – أحمد فائز – ص 107
-9 الجهاد الأفغاني ودلالاته – محمد قطب – ص 47
10 -في ظلال القرآن ج2 ص 1105 ، طريق الهجرتين ص 140
-11 معالم الانطلاقة الكبرى محمد عبد الهادي المصري ص 194 ، 197
-12 السابق ص 197
-13انظر الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة – د.محمد محمد بدري ص 34 : 38
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.